يحكى أن رجلاً فقيراً صالحاً يدعى حليم كان يعيش في أحد البلاد بين أناس فاسقين ظالمين لا يعرفون العدل ولا الرحمة ويفعلون كل ما هو منكر ومحرم لإشباع رغباتهم من ملذات الحياة. وكان حليم لا يلقى من أولئك الناس إلاّ الأذى والسخرية والمعاملة السيئة، وقد عاش بينهم فترة من حياته وهو على ذلك الحال إلى أن فقد صبره أخيراً ولم يعد يحتمل ظلمهم وجورهم فرغب في الابتعاد عنهم لكي يستريح منهم، ولم يجد له من وسيلة لتحقيق ذلك إلاّ الذهاب إلى أحد الجبال البعيدة التي لا يوجد فيها أحدا من الناس لكي يعيش هناك وحيداً كالنساك ويتفرغ لعبادة الله.
وهكذا كان، فقد انتقى حليم لنفسه غاراً في أحد الجبال البعيدة جداً عن الناس ورحل إليه، وأخذ يقتات هناك من ثمار بعض الأشجار ويصطاد بعض الطيور والحيوانات. واستمرت حياة حليم على ذلك الحال لفترة طويلة من الزمان كان خلالها قد اعتاد على تلك الحياة وكان قانعاً بكل شيء بالرغم من وجود بعض المشاكل التي كانت تواجهه والتي كان يتخطاها بفضل عزيمته ورغبته في البقاء على قيد الحياة.
ففي ذات يوم وبينما كان حليم جالساً في الغار فوجئ بوجود رجلاً غريباً يقف أمام مدخل الغار وهو يستأذنه بالدخول، فدهش حليم من وجود ذلك الرجل الذي لم يكن يتوقع وجوده هناك وخالجه الشعور بالخوف، فهو منذ سنين عديدة لم يشاهد أحداً من الناس وكأنه ببعده عنهم قد نسي كيف يكون شكل الإنسان، لكنه وبعد أن أمعن النظر في ملامح ذلك الرجل ارتاح له وهدأ روعه لأن ملامحه كانت لا تدعو إلى الريبة بل كان ذو وجه جميل ومنظر حسن، فأذن له حينئذٍ بالدخول فدخل الرجل وجلس في إحدى زوايا الغار وظل صامتاً لا يتكلم حتى بادره حليم بالسؤال قائلاً:
ما الذي جاء بك إلى هنا أيها الرجل، أضللت طريقك أم ماذا؟
أجاب الرجل: بل أنا قاصد إليك.
قال حليم مندهشاً: من أنت، وماذا تريد مني؟
قال الرجل: تمهل ولا تكن عجولاً فسوف تعرف من أنا ولكن قل لي أنت أولاً، ما الذي دفع بك لكي تأتي إلى هنا وتعيش في هذا المكان المقفر الذي لا تألفه إلاّ الحيوانات المفترسة والوحوش الضارية، ألم يكن أحرى بك أن تعيش هناك مع الناس وتتمتع بما يتمتعون به من ملذات الحياة؟
نظر حليم إلى الرجل نظرة استغراب ثم قال له:
يبدو أنك لم تعاني من جور الناس وظلمهم كما عانيت أنا منهم، وما أدراني فربما تكون أنت واحد منهم، هيا قل لي من أنت وهل أستطيع مساعدتك في شيء؟
قال الرجل مستهزئاً:
في مثل هذا الوضع الذي أنت عليه الآن لا أظن أنك قادر حتى على مساعدة نفسك، فكيف تكون قادراً على مساعدة الآخرين؟ والذي يحتاج للمساعدة إنما هو أنت وليس أنا ولأجل ذلك قد جئت إليك.
قال حليم: إن كلامك يوحي لي بأنك كنت تعرفني من قبل، أليس كذلك؟
قال الرجل: أجل أنا أعرفك جيداً، وقد كنت أقدم لك النصيحة تلو الأخرى وكنت ترفض ذلك، ولو أنك أصغيت لكلامي واتبعت نصحي لما جرى لك كل ما جرى وجئت إلى هذا المكان الموحش لتعيش فيه وحيداً دون رفيق أو صديق.
قال حليم وقد ازداد استغراباً: غريب أمرك يا هذا، فأنا لا أذكر أني قد رأيتك أو تحدثت إليك قبل الآن، فمن تكون أيها الرجل؟
قال الرجل وهو يبتسم: أنا الشيطان، ألا تعرفني؟
لما سمع حليم ذلك أخذ يضحك ثم قال للرجل:
أتريد إخافتي بهذا الكلام، أم أنك تسخر مني يا رجل؟
قال الرجل: أجل أنا الشيطان حقاً، ألا تصدق ذلك؟
قال حليم: لا، لا أصدق ما تقول، فكيف تكون أنت الشيطان ولديك مثل هذه الملامح الجميلة وهذا الوجه الحسن، فالشيطان كما يصفه الناس ويعرفونه فهو بشع الصورة وقبيح المنظر ومخيف ومرعب وليس كما تبدو لي أنت الآن، فإن كنت أنت الشيطان حقاً فدعني إذن أراك على صورتك الحقيقية التي نعرفها عنك.
ما إن أنهى حليم كلامه حتى حصل ما لم يكن بالحسبان ففي لمحة من البصر تلاشى ذلك الرجل من أمام حليم وكأنه لم يكن سوى سراب، فصعق حليم مما رأى وسقط إلى الأرض مغشياً عليه، ومضى بعض الوقت وحليم ملقى على الأرض دون حراك إلى أن عاد إلى وعيه أخيراً وأخذ ينظر حوله في الغار وهو ما زال منهكاً وخائفاً لكنه لم يرى فيه أحداً، وبعد أن هدأ روعه أخذ يخاطب الرجل وكأنه ما زال موجوداً في الغار وقال:
لقد أيقنت الآن أنك أنت الشيطان، وأظن أنك لا زلت معي في الغار فعد إلى الشكل الذي رأيتك فيه لأنني لا أستطيع التحدث مع مخلوق دون أن أراه.
وعلى الفور عاد الشيطان إلى الشكل الذي كان عليه وقال لحليم:
ها، هل صدقت الآن أني أنا الشيطان؟
قال حليم: أعتقد الآن أنك أنت الشيطان ولكن قل لي، لماذا لم تظهر لي على صورتك الحقيقية التي نعرفها عنك؟
قال الشيطان: لقد ظَهرتُ لك على صورتي الحقيقية بالفعل ولكنك لم ترني لأن الإنسان لا يقدر أن يراني من خلال عينيه المجردة، فأنا كما تعلم قد خلقت من لهب النار.
قال حليم: إن الذي نعلمه عن الشيطان أنه إذا أراد أن يظهر لأحدٍ من الناس إنما يظهر له في شكل مخيف ومرعب وليس كما تبدو لي أنت الآن.
قال الشيطان: إنه تفكير خاطئ عني أنا الشيطان، وهل أنا أحمق لهذه الدرجة، فإذا ظهرت للناس على ذلك الشكل المخيف المرعب الذي تصفني به فإنهم سيخافون مني ويهابونني ومن ثم يبتعدوا عني ولا يستمعوا إلي، وإنما أنا أريد من الناس أن يتبعوني ويسمعوا كلامي، فكيف يصح ذلك يا رجل؟
قال حليم: إن ما تقوله أيها الشيطان بالنسبة لظهورك للناس يدعو إلى التأمل والتفكير وربما يكون صحيحاً، وعلى أية حال فإن ما تدعوا إليه الناس وترغبهم فيه إنما هي أمور تضرهم وتؤدي إلى هلاكهم في الدنيا ومن ثم إلى الجحيم في الآخرة، وأظن أنه لهذا السبب يصفك الناس بالشرير ويصورونك على تلك الصورة البشعة.
قال الشيطان: لا، لا تخطأ أيها الرجل، إنما أريد من الناس أن يتبعوني لكي يعيشوا حياتهم في سعادة وطمأنينة ويحصلوا على كل ما يرغبون ويتمنون، فأنا أدعو الناس لكي يكونوا أقوياء لا ضعفاء لأنه ليس للضعيف حياة بين الأقوياء والدليل على ذلك ما يردده الأقوياء دائماً: إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب. وأنا أدعو الناس لكي يكونوا أغنياء لا فقراء لأنه بدون وجود المال لا يقدر الإنسان أن يحقق شيئاً مما يريد ويرغب وخاصة في هذه الأيام التي أصبح فيها المال أهم شيء في حياة الإنسان، والدليل على صحة ما أقول هو أنت أيها الرجل الفقير الكسول، فلو كنت قوياً وتملك المال لما أتيت إلى هذا الجبل وهربت من الناس لتعيش هذه الحياة التعيسة البائسة.
قال حليم: ما أدراك أيها الشيطان أني في حياتي هذه لست أسعد حالاً من أولئك الناس الذين يملكون المال ولديهم كل شيء، وأنا لم أهجر الناس لأني ضعيف أو لأني فقير المال بل هجرتهم لأنهم ظالمون وذو قلوب قاسية ويتبعون ما تقول لهم أنت أيها الشيطان، ولكي يصبحوا أغنياء فهم لا يتورعون من فعل كل ما هو منكر ومحرم ويدوسون بأقدامهم أمثالي من الناس دونما شفقة أو رحمة، فهل ما يفعله أولئك الناس هو حق وعدل أيها الشيطان؟
قال الشيطان: هكذا أنتم دائماً أيها الكسالى، فأنتم تتخذون الحق والعدل والحلال والحرام ذريعة لكي تبررون كسلكم، ولو كانت الأمور مسهلة أمامكم والفرصة سانحة لكم لكي تكونوا مثل الآخرين أغنياء وأقوياء وذوي سلطة وبأس لما ترددتم لحظة واحدة في تحقيق ذلك، بينما الآخرون يفعلون كل ما بوسعهم لكي يحققون ما يشاءون، وهم بفضل نشاطهم وهمتهم يصلون إلى ما يرغبون ويتمنون ولا ينظرون لا إلى الحلال والحرام ولا إلى الحق والعدل، وإن كنت قوياً كما تدعي فكيف ترضى إذن أن يدوسك الأقوياء بأقدامهم وكأنك لست سوى حشرة ضعيفة لا تستحق الحياة، فلماذا لا تكون مثلهم وتبرهن لهم أنك أنت أيضاً من الأقوياء لكي تعيش بينهم بعزتك وكرامتك؟
قال حليم: أجل أيها الشيطان، أنا لست ضعيفاً بل قوياً، لكنني لا أريد أن أستعمل القوة والعنف وأفعل المنكرات في الحياة لكي أكون مثل أولئك الفاسقون الذين لا يفقهون معنى الحق والعدل، وأنا وأمثالي من الناس لسنا بالكسالى كما تصفنا بل نحن قانعون ونرضى بالقليل ولا نريد أن نظلم أحداً ولو أن جميع الناس كانوا كذلك لما كان هنالك ظالماً ومظلوماً وقوياً وضعيفاً وغنياً وفقيراً بل كان جميع الناس سواء وعاشوا معاً بسلام وأمان، وأنا لم آتي إلى هنا إلاّ لأنني أخاف الله وأكره أن أكون مثل أولئك الفاسقين الظالمين.
قال الشيطان: أنا أرى أنك لم تأتي إلى هذا الجبل أيها المسكين إلاّ لأنك كسول وجبان أيضاً، ألم يكن أحرى بك أن تبقى مع الناس وتفعل مثلما يفعلون وتتمتع بمباهج الحياة وملذاتها، وماذا عن رغبتك في النساء، ألست رجلاً تملك الرغبة والشهوة، ألست إنساناً ذو مشاعر وأحاسيس وأماني، أين كل ذلك منك الآن؟ هل مات كل ذلك فيك مع مرور الزمان حتى أصبحت كالجماد لا تشعر بشيء من ذلك؟
قال حليم: لقد تغلبت على شهواتي ورغباتي بإرادتي القوية، فالقوة باعتقادي هي في أن يردع المرء نفسه عن الملذات والمغريات ولا يحقق لها ما ترغب وتشتهي، وأنا بأفعالي هذه إنما أطلب الجنة وأنت وأمثالك بأفعالكم تلك إنما ستدخلون النار وبأس القرار.
قال الشيطان ساخراً: إن ما تقوله أيها الجاهل يدعو إلى الغرابة، أين هي تلك المغريات والمفاتن التي تغلبت عليها بإرادتك القوية، هل هي هنا في هذا الغار المقفر الموحش المظلم الذي لا حياة فيه أم أنها هناك مع الناس وفيما يملكون وخاصة مع النساء الجميلات الفاتنات، وبأي الأفعال ستدخل الجنة إن كنت لا تعيش مع الناس وتخالطهم وتتعامل معهم وترى وتسمع، أتعتقد أنك بالعبادة فقط ستدخل الجنة؟ لا، أنت مخطأ أيها الكسول.
كان الشيطان يتكلم وهو يمعن النظر في وجه حليم وقد رآه مصغياً إليه بكل قواه ولاحظ أنه على وشك الاقتناع بكلامه فتابع حديثه قائلاً:
أنت لا تدري أيها الكسول ما يجري في هذا العالم اليوم، فأنت ومنذ زمن طويل لم تشاهد الناس ولم تسمع أخبارهم، هيا اخرج من مخبأك وأنظر ماذا يفعل الأقوياء بأمثالك من الناس وكيف هم يقتلونهم ويسحقونهم بآلات الدمار الفتاكة وبوسائل لا تخطر لك على بال، وأنا لم أزل على اعتقادي بأنك أنت وأمثالك لا تريدون أن تكونوا أقوياء وأغنياء كالآخرين إلاّ لأنكم كسالى أو متخاذلون ولذلك تُعذّبون وتُحقّرون وتُقتلون، وكما ترى فإنه لا حياة إلاّ للأقوياء والأغنياء وذوي السلطة والبأس.
كان يريد الشيطان بكلامه هذا أن يُخرج حليم من عزلته التي هو فيها ويعود للحياة بين الناس ليصبح واحداً من أولئك الناس الأقوياء الظالمين ويفعل مثلما يفعلون، وقد انتبه حليم إلى ما يرمي إليه الشيطان فقال له:
أعتقد أيها الشيطان بأن كل ما يفعله أولئك الأقوياء الظلمة إنما يعود إلى الأفكار التي تبثها أنت في أنفسهم، فهم لو لم يتبعوك لما فعلوا ذلك، فأنت السبب إذن في كل ما يجري في هذا العالم من فساد وحروب وقتل ودمار وخراب، أليس ما أقوله هو الصواب؟
قال الشيطان: لا، أنت مخطأ أيها الرجل، وهكذا أنتم معشر البشر فكل ما يفعله الناس في حياتهم من أخطاء يضعون اللوم فيها علي أنا الشيطان، وأنا في الواقع برئ من أكثر الأفعال التي يصنعها البشر، فهل أنا من اخترع تلك الأسلحة الفتاكة المدمرة وتلك الآلات التي لا تبقي ولا تذر؟ وهل أنا من دعا الناس إلى افتعال الحروب وصنع الدمار؟ لا لست أنا من فعل ذلك، فأنا لم أقتل أحداً ولا أستطيع حتى أن أقتل أحداً، فما ذنبي إذن لو قتل الناس بعضهم بعضاً، وهل أحاسب أنا على فعل ارتكبه غيري؟
قال حليم:إن مثل تلك الآلات المدمرة التي ذكرتها أيها الشيطان هي بالتأكيد ليست من صنعك لكنها من وحيك، فأنت الذي أوحيت بها لعقل الإنسان لكي يصنعها بحجة أن يدافع بها عن نفسه ويدرأ خطر من يريد السيطرة عليه، ومن ثم زرعت في نفوس الناس بأن عليهم أن يكونوا أقوياء لكي لا يسحقهم من هم أقوى منهم.
قال الشيطان: إذا كان ما تقوله أيها الرجل صواباً فذلك فيه دلالة واضحة على أنني أنا الشيطان أفضل خلقاً من الإنسان، ليس بما أملك من جسد قوي وحسب بل بما أملك أيضاً من عقل وذكاء وكفاءة، وذلك بدليل ما تقول بأن الناس يسمعون قولي ويطيعونني ويتبعونني، وإنني لأعجب كيف أن الله كان قد أمرني لأن أسجد لكم أنتم بني آدم وأنتم أضعف مني جسداً وعقلاً وذكاءً، أما كان يجب عليكم جميعاً أن تسجدوا لي، أوليس الذي هو أفضل جسداً وعقلاً هو الأفضل خلقاً؟ أنا لا أفهم ذلك ولن أفهمه أبداً.
قال الشيطان ذلك وقد بدت على وجهه علامات الغضب وأمارات التعجب لأنه لم يكن مقتنعاً ولن يقتنع بأن خلق الإنسان أفضل من خلقه، وبعد أن فكر حليم جيداً في كلام الشيطان أدرك أنه إنما ينظر إلى القوة والعقل والذكاء والدهاء ولا ينظر إلى النفس والإرادة وإلى طاعة الله فقال له:
أجل أيها الشيطان، إني أعترف أنك أفضل من أولئك الناس الذين يتبعونك، وأولئك هم الضعفاء حقاً لأنهم ضعفاء الإرادة والنفس وغير قادرين على مقاومة شهواتهم ورغباتهم، لكنك لست أفضل من أولئك الناس الذين لا يتبعونك ويتبعون الله، وأولئك هم الأقوياء حقاً لأنهم أقوياء الإرادة والنفس وهم قادرين على مقاومة شهواتهم ورغباتهم.
إذن يوجد هنالك من بني آدم من هم أفضل منك خلقاً أيها الشيطان وأولئك هم الذين يتبعون إرادة الله ويؤمنون به، وهم الذين فضلهم الله عليك وأمرك أن تسجد لهم.
وسكت الشيطان بعد ذلك وكذلك حليم وأخذ كل منهما يفكر بكلام الآخر، فأما الشيطان فإنه ظل مصراً على رأيه بأنه هو الأفضل خلقاً وليس الإنسان لأن كبريائه وعناده يمنعانه من الاعتراف بذلك، فالشيطان وإن فشل هذه المرة من إغواء حليم كما فشل من قبل مع بعض الناس، فلن يمنعه ذلك من تكرار المحاولة في مراحل مقبلة وبطرق أخرى، وقبل أن يغادر الشيطان الغار التفت نحو حليم ثم قال له:
فكر جيداً بما قلت لك أيها الرجل المسكين، فإن أنت اقتنعت بكلامي وكنت بحاجة لمساعدتي فما عليك إلاّ أن تتمنى وجودي فقط فتجدني حاضراً بين يديك وفي أقل من لمح البصر، وهكذا كان ففي لمحة من بصر حليم نحو الشيطان كان قد اختفى من أمام عينيه.
بعد أن ذهب الشيطان واختفى من الغار أخذ حليم يفكر في كلام الشيطان ويستعيد في ذاكرته ما دار بينهما من حوار فتبين له أنه حقاً كان قد ارتكب خطأً فادحاً حين هجر الناس وقدم إلى هذا الجبل، وندم على ذلك كثيراً ثم قرر حينئذٍ أن يعود إلى الحياة مع الناس وأن يكون من الأقوياء، لكن ليس أولئك الأقوياء الذين يظلمون الناس ويفسدون في الأرض بل من الأقوياء الذين ينصرون الحق والعدل، وقرر حليم أن يكون أسداً وليس ذئباً لكي يفترس أولئك الذئاب الذين لا يستحقون إلاّ الموت والهلاك، وقرر حليم أيضاً أن يكون غنياً وليس فقيراً لكي يستطيع من خلال وجود المال أن يحقق ما يحتاج إليه من متطلبات الحياة ولكي يساعد الفقراء والمحتاجين.
وقد تبين لحليم أيضاً أن هنالك أموراً كثيرة في هذه الحياة لم يكن يعرفها ويفهمها من قبل، فقد فهم حينذاك أن الانتصار على الظلم والظالمين ليس هو بالعبادة والدعاء والتذرع إلى الله فقط، فالوصول إلى الغاية المطلوبة وتحقيق الهدف لا يكون إلاّ بالتفكير السليم وبالوسائل النافعة والعمل المتقن ومن ثم بالاتكال على الله، فالله تعالى نفسه حين خلق الأشياء كان قد قَدَّرها أولاً ونَظَّمها ثم ركَّبها وجمعها حتى أدَّت بعد ذلك وظائفها وعملها وها هي تلك الأشياء مستمرة في عملها منذ أن أوجدها الله منذ بلايين السنين وإلى يومنا هذا ولم يتغير فيها من شيء مع مرور الزمان ولن يتغير وهي ستستمر أيضاً في عملها كما هي إلى أن يبيدها الله أو ينشأ غيرها.
إذن بالرغم من كل ما يفعله الناس الظالمين على الأرض من كفر وظلم وقتل وفساد لا يزال كل شيء على حاله ولم يُغيّر الله فيه من شيء، فالسماء لا زالت هي السماء والأرض هي الأرض، والإنسان هو الإنسان، وكل ما ندركه ونراه في هذا الكون لا يزال كما هو لم يتغير ولم يتبدل، ولا زال الظالم ظالماً والمظلوم مظلوماً.
وأمعن حليم في التفكير ثم أخذ يتساءل بينه وبين نفسه:
ترى ماذا ينتظر أولئك المظلومين؟ هل ينتظرون من الله أن يفني الدنيا أو يفجر الأرض لكي يخلصهم من الظلم والظالمين؟ أم ينتظرون من الله أن يغير أنظمة الحياة من أجلهم لكي يتعطل مفعول تلك الآلات والأسلحة المدمرة التي يستعملها الظالمون، أم أنهم ينتظرون من الله أن يرسل إليهم جنوداً من السماء لينصروهم على الظالمين؟
وبعد برهة من التفكير وجد حليم الإجابة على أسئلته وأخذ يحدث بها نفسه ويقول:
لا لن يفعل الله ذلك ولن يغير أنظمة الحياة من أجل أولئك المظلومين وما عليهم إلاّ أن يعتمدوا على أنفسهم كما اعتمد أولئك الظالمون على أنفسهم واستفادوا من تلك الأنظمة التي أوجدها الله في الحياة وعرفوا كيف يتعاملون معها لتحقيق غاياتهم ومآربهم فاخترعوا آلاتهم المدمرة وأسلحتهم الفتاكة ثم حصلوا من خلالها على كل ما يريدون.
وعاد حليم يخاطب نفسه ويقول:
أنا لا أفهم لماذا لا يستفيد المظلومين من أنظمة الحياة كما استفاد منها الظالمين ويكونوا هم أيضاً أقوياء ولكن عادلين فيقوا على الأقل أنفسهم شر الظالمين أو ربما يرهبونهم فلا يعتدون عليهم أو ربما كانوا هم المنتصرين، ولا أعتقد مطلقاً بأن أولئك الظالمين هم أشد ذكاءً من المظلومين بل أظن أن المظلومين هم كما وصفهم الشيطان: كسالى أو متخاذلين.
وذهب الخيال بحليم إلى أبعد من ذلك فقد فكر أنه ربما استطاع أن يؤلف جيشاً من المظلومين والمؤمنين ويجد لهم الوسيلة التي تساعدهم في الانتصار على الظالمين والكافرين، أو ربما يأتيهم بفكرة عبقرية تغير مجرى حياتهم وتقلب كل الأمور رأساً على عقب.
ولكي يحقق حليم ما كان يفكر فيه ويتمناه فقد هيأ نفسه على الفور وخرج من الغار ثم نزل الجبل قاصداً الناس وهو يشعر بالسعادة لما حدث له في ذلك اليوم واعتبر أن وجود الشيطان معه وقتذاك كان سبباً في إظهار الحقيقة له، وهو لم يكن يعتقد يوماً بأن الحوار مع الشيطان له مثل تلك الفائدة الكبيرة.
أخذ حليم ينزل الجبل بخطى سريعة وفي مخيلته ألف فكرة وألف حل لإنهاء تلك المشاكل والمحن التي يعاني منها المظلومين في الأرض، ومن فرط سرعته في السير زلت قدمه وسقط إلى الأرض ثم أخذ يهوي ويهوي في الجبل حتى اصطدم جسده أخيراً بإحدى الصخور فانكسرت من جراء ذلك إحدى ساقيه وإحدى ذراعيه وفج رأسه وأخذ الدم يسيل منه بغزارة وحاول بكل ما لديه من قوة أن يقف ويتابع سيره لكنه لم يقدر على ذلك لقوة الصدمة وشدة الألم الذي حل به، وبقي على ذلك الحال لبضع ساعات وهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً وقد بدأت قواه تنهار وتضعف شيئاً فشيئاً، وبينما هو كذلك إذا به يرى الشيطان واقفاً أمامه وسمعه يقول له: هل أنت بحاجة للمساعدة يا حليم؟
نظر حليم إلى الشيطان بعينين ذابلتين متعبتين وحاول أن يحرك شفتيه ليقول له شيئاً ولكنه لم يستطع ذلك فعاد وأغمض عينيه ثم فارق الحياة.
وهكذا مات حليم دون أن يرى الناس من جديد ودون أن يحقق شيئاً مما كان يدور في ذهنه.
نظر الشيطان بعد ذلك إلى حليم نظرة الوداع ثم قال:
أما كان أحرى بك أيها المسكين أن تبقى في ذلك الغار ولا تسمع كلامي، ولكن على أية حال تلك هي نهاية الكسالى أمثالك، فهم يعيشون طيلة حياتهم يحلمون ويتمنون ثم يسعون متأخرين لتحقيق تلك الأماني والأحلام فيدركهم الموت دون أن يحققوا شيئاً من ذلك.
ومضى الشيطان بعد ذلك يبحث في الجبال عن حليم آخر لكي يساعده فينزل الجبل ويلقى حتفه، أو ربما يحالفه الحظ فينشر العدل في الأرض ويبيد الظالمين.